
بقلم: عائشة حموضة – النقابية والناشطة في حقوق العمال والزراعيين
مقدمة: أرض تزخر بالخير.. وشعب يُحرم من ثماره
في سهول الأغوار الوسطى، حيث تمتد حقول الخضراوات الخضراء تحت أشعة الشمس الحارقة، تكشف لنا جولاتنا الميدانية قصة أخرى غير تلك التي نراها على السطح. قصة معاناة يومية لعشرات الأسر الفلسطينية التي تعمل في قطاف الخيار من الفجر حتى الغروب، تحت ظروف لا إنسانية، بينما تُباع منتجاتهم في الأسواق بأسعار زهيدة لا تعكس حجم التضحيات التي بذلت لإنتاجها .
كم هو مؤلم أن نرى أطفالاً في عمر الزهور يقطفون الخيار بدلاً من حمل الأقلام، ونساءً يعانين من الحر الشديد دون أدنى مقومات للراحة أو الخصوصية، وعائلات بأكملها تعيش في خيام أو تحت صفائح الزينكو، بلا مياه نظيفة ولا مراحيض لائقة. هذه هي الصورة الحقيقية للزراعة في الأغوار، التي تُعتبر سلة الغذاء الفلسطيني، بينما يُحرم أبناؤها من أبسط حقوقهم .
الفصل الأول: يوميات العمال الزراعيين – بين المطرقة والسندان
ساعات عمل لا إنسانية
خلال جولاتنا الميدانية في مناطق وادي الفارعة وطلوزة وسهل سميط والنصارية والعقربانية، شاهدنا بأم أعيننا كيف يعمل المزارعون وعائلاتهم من شروق الشمس حتى ما بعد العصر، أحياناً لمدة تصل إلى 16 ساعة متواصلة.
العامل الواحد يجمع يومياً بين 15 إلى 17 صندوقاً من الخيار، يتقاضى مقابل كل صندوق 10 شواكل فقط (ما يعادل أقل من 3 دولارات)، بينما تضاعفت تكاليف مستلزمات الإنتاج بأكثر من 300% منذ تسعينيات القرن الماضي .
بيئة عمل غير آمنة
– **غياب الحماية من العوامل الجوية**: ومدى تاثر في التغير المناخي يعمل العمال تحت أشعة الشمس الحارقة دون مظلات أو أماكن للاستراحة، مما يعرضهم لضربات الشمس والإجهاد الحراري.
– **نقص المرافق الصحية**: لا توجد حمامات لائقة، خاصة للنساء، مما يضطرهن إلى الانتظار حتى العودة إلى أماكن إقامتهم البدائية .
– **استخدام المبيدات الخطرة**: كثير من المزارعين يستخدمون مبيدات غير مرخصة أو لا يلتزمون بفترات الأمان المطلوبة قبل القطاف، مما يعرض صحة العمال لمخاطر جسيمة .
معاناة مضاعفة للنساء والأطفال
النساء العاملات في الحقول يعانين من تمييز مضاعف، حيث يتقاضين أجوراً أقل من الرجال رغم تساويهم في ساعات العمل والمجهود. أما الأطفال، الذين يُجبرون على ترك مدارسهم للمساعدة في القطاف، فهم الأكثر عرضة للمخاطر الصحية بسبب تعرضهم للمبيدات والأتربة التي تسبب الحكة ومشاكل تنفسية .
الفصل الثاني: جذور الأزمة – بين الاحتلال والإهمال
سياسات الاحتلال المدمرة
لا يمكن فهم معاناة العمال الزراعيين في الأغوار دون النظر إلى سياسات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة لضرب القطاع الزراعي الفلسطيني:
– **السيطرة على المياه**: يستولي الاحتلال على 80% من موارد المياه في الضفة الغربية، بينما يحصل المزارع الفلسطيني على النزر اليسير بأسعار باهظة .
– **تلويث الأراضي**: تقوم المستوطنات بإلقاء مياه الصرف الصحي غير المعالجة في الأراضي الزراعية الفلسطينية، مما يؤدي إلى تلويث التربة والمياه الجوفية .
– **مصادرة الأراضي**: دمر الاحتلال أكثر من 173,000 مسكن واقتلع مليوني شجرة مثمرة منذ 1948، وصادر 78% من أراضي فلسطين التاريخية .
– نشر الخنآزير في كل المناطق الزراعية ضمن سياسة تدمير المزروعات.
إخفاقات الحكومات المتعاقبة
رغم كل هذه التحديات، فإن الحكومات الفلسطينية المتعاقبة لم تضع استراتيجية واضحة لحماية القطاع الزراعي ودعم المزارعين:
– **غياب الدعم الفني والمالي**: لا يوجد تمويل كافٍ للمزارعين، ولا برامج تدريبية لتحسين جودة الإنتاج .
– **فساد في تسويق المنتجات**: 90% من إنتاج الخيار يذهب إلى المصانع الإسرائيلية لصناعة المخلل بأسعار زهيدة، بينما يُحرم المزارعون من الوصول المباشر للأسواق العالمية .
– **التوسع العمراني العشوائي**: دمّر “الغول العمراني” ما بين 700 إلى 800 دونم من الأراضي الخصبة في الأغوار، دون أي رقابة أو تخطيط .
– عدم وضع استراتيجيات تسهم في رسم الخريطة الزراعية للمنتجات الزراعية في الأراضي الفلسطينية .
الفصل الثالث: نداءات وتوصيات – قبل فوات الأوان
نداء عاجل إلى الحكومة الفلسطينية
– **إقرار حد أدنى للأجور**: يجب ضمان أجر عادل للعمال الزراعيين، لا يقل عن 200 شيكل يومياً، مع توفير تأمينات صحية واجتماعية .
– **تحسين البنية التحتية**: توفير مرافق صحية لائقة في مناطق العمل، وإنشاء مراكز إيواء مؤقتة للعائلات التي تضطر للإقامة أشهراً في الحقول .
– **مراقبة استخدام المبيدات**: تشكيل لجان تفتيش مشتركة من وزارات الزراعة والصحة والاقتصاد لمراقبة جودة المبيدات المستخدمة .
توصيات للمجتمع الدولي
– **الضغط على إسرائيل**: لوقف سياساتها التدميرية ضد القطاع الزراعي الفلسطيني، ورفع الحصار عن الأغوار .
– دعم المشاريع الزراعية
– **: تمويل مشاريع جمعيات المياه والري بالتنقيط، ودعم إنشاء تعاونيات زراعية تسويقية .
دعوة للنقابات والمنظمات الأهلية
– **تنظيم حملات توعية**: لتثقيف العمال الزراعيين بحقوقهم الصحية والمهنية .
– **إنشاء صندوق تضامني**: لدعم العائلات التي تعاني من الفقر المدقع بسبب تراجع العوائد الزراعية .
خاتمة: الأرض مقاومة.. والشعب صامد
رغم كل هذه المعاناة، يبقى المزارعون والعمال الزراعيون في الأغوار صامدين على أرضهم، كأشجار الزيتون التي تتعمق جذورها كلما حاول الاحتلال اقتلاعها. قصتهم هي قصة صمود وطني بامتياز، لكن الصمود وحده لا يكفي. نحتاج إلى خطوات عملية عاجلة لإنقاذ ما تبقى من القطاع الزراعي، الذي يشكل ليس فقط مصدر رزق للآلاف، بل أيضاً خط الدفاع الأخير عن هويتنا الوطنية وارتباطنا بهذه الأرض المباركة.
كما قال أحد المزارعين الذي قابلته خلال الجولة: “نحب هذه الأرض رغم كل شيء، نعمل عليها حتى وإن لم نأكل من خيرها، لأنها أرض الآباء والأجداد، وسنبقى هنا حتى لو اضطررنا للنوم تحت النجوم” . فهل نتركهم وحدهم في هذه المعركة؟