بقلم: الكاتبة والناشطة النقابية عايشة حموضة
تشكّل مأسسة الحوار الاجتماعي إحدى الأدوات الجوهرية لبناء سوق عمل مستقر وقادر على مواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة. فالحوار بين أطراف الإنتاج – الحكومة، أصحاب العمل، والعمال ممثلين بنقاباتهم – لم يعد مجرّد آلية للتفاوض حول شروط العمل، بل تحوّل إلى إطار وطني شامل يسهم في صياغة السياسات العامة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، ودعم التنمية الاقتصادية المستدامة.
الحوار الاجتماعي كضرورة لبناء سياسات اقتصادية واجتماعية فعّالة
إن مأسسة الحوار تسعى إلى وضع آليات دائمة ومنظّمة للتشاور والتفاوض، بما يسمح ببناء سياسات اقتصادية واجتماعية تستجيب لاحتياجات سوق العمل. ولا تقتصر هذه السياسات على معالجة البطالة وتطوير سياسات التشغيل، بل تمتد لتشمل صياغة رؤية اقتصادية طويلة المدى قادرة على تكييف سوق العمل مع التحولات العالمية، وعلى رأسها:
• التحول نحو اقتصاد المنصات الرقمية.
• متطلبات الانتقال العادل في مواجهة التغير المناخي.
• تعزيز العمل الأخضر وفرص العمل اللائق المستدام.
هذه التحولات تفرض على فلسطين ضرورة تطوير أدوات جديدة للحوار الاجتماعي، بما يمكّنها من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي، وبناء سياسات تراعي العدالة، وتحمي الفئات الأكثر هشاشة في سوق العمل.
الحاجة إلى رؤية وطنية متجددة في ظل الظروف الراهنة
تمر فلسطين بظروف سياسية واقتصادية استثنائية، خاصة في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم متواصلة، وعلى رأسها العدوان الوحشي والإبادة التي طالت قطاع غزة، والانتهاكات الصارخة في الضفة الغربية. هذه الظروف لا تعيق فقط التنمية الاقتصادية، بل تؤثر مباشرة على بنية سوق العمل، وعلى قدرة المجتمع على إنتاج رؤية واضحة للمستقبل.
من هنا، يصبح الحوار الاجتماعي الممأسس أداة وطنية لبناء رؤية بعيدة المدى تقوم على:
• إعادة الإعمار الاقتصادي والاجتماعي.
• تعزيز صمود العمال والفئات المهمشة.
• تطوير موارد بشرية قادرة على الاندماج في سوق العمل المستقبلي.
• دعم السياسات الوطنية المرتبطة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
الحركة النقابية ودورها في تعزيز الشراكة الوطنية
لا يمكن فصل مأسسة الحوار الاجتماعي عن الدور الحيوي للحركة النقابية. فالنقابات ليست مجرد جهة تفاوضية، بل هي شريك أساسي في بناء السياسات الوطنية، وتمتلك القدرة على تمثيل صوت العمال والدفاع عن حقوقهم. وعندما يُمنح هذا الدور ما يستحقه، يصبح الحوار الاجتماعي مدخلاً لتحقيق شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع.
إن تعزيز دور الحركة النقابية يسهم في:
• تطوير التشريعات العمالية وتنظيم علاقة العمل.
• حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملين.
• دعم التوجه نحو العمل الأخضر وسوق العمل الرقمي.
• ضمان مشاركة عادلة ومتوازنة في صياغة السياسات العامة.
نحو نموذج فلسطيني للحوار الاجتماعي
إن بناء منظومة حوار اجتماعي ممأسسة في فلسطين ليس مجرد مطلب إداري، بل هو ركن أساسي في عملية بناء الدولة الوطنية. فالحوار القائم على الحقوق والمشاركة والشفافية هو القادر على توحيد الجهود وتوجيهها نحو استثمار حقيقي في الموارد البشرية والمالية، وتعزيز الشراكات التي تقف في مواجهة التحديات التي يفرضها الاحتلال.
خاتمة
إن فلسطين اليوم بحاجة إلى نموذج حقيقي للحوار الاجتماعي، يقوم على مؤسسات قوية، ونقابات فاعلة، وشراكة واضحة بين أطراف الإنتاج. نموذج يعزز الصمود الوطني، ويضع أسسًا اقتصادية واجتماعية قادرة على مواكبة التحولات العالمية، ويضمن حق العمال في سوق عمل آمن، عادل، ومستدام.
إن مأسسة الحوار ليست إجراءً شكليًا، بل خطوة استراتيجية نحو بناء دولة فلسطينية عادلة وحديثة، تستند إلى المشاركة المجتمعية وتستثمر في الإنسان كأهم مورد وطني




